السلام عليكم ورحمة الله مقالنا التالي، نرى أنه يشكل مساهمة مهمة في وقف نزيف الخطابات الأيديولوجية التي تستهلك طافة الشباب وتشتت جهودهم
سطوةُ الخطاب الفضفاض
معَ تنامي الوعي الوطني بالتردي المؤسفِ لواقع بلادنا، لم يعد هناك مناكف في حالة البلد التي يعيشها ويعرفها سكانه، فلعل الأطراف الفاعلة كلّها أصبحت مجمعة بما فيها النظام القائم ـ ولعلها من حسناته ـ أن البلد يعيش أوضاعا مزرية من الناحية الاقتصادية والاجتماعية، ومن هنا فإن الحديث كان يجب أن يتجه لزاماً إلى الإصلاح والحلول الناجعة الشاملة، التي ستنقذ الأمة، ولاشك أن أول خطوة نحو أي إصلاح مجتمعي، تتجسّد في صياغة وبلورة أهداف وطنية، في مختلف اتجاهات وأبعاد الحياة، سياسية واقتصادية واجتماعية. وحين نتحدث هنا عن صياغة فكرة أو بلورة هدف فإننا بالطبع نتحدث عن مسؤولية صانعي الرأي العام وموجهي العقول، وهم النخبة المثقفة، وأما شرُّ الدواب في الأرض ذوي العقول المتبلدة والملقحة ضد التفكير فأولائك لايصنعون مستقبلا ولا يغيرون واقعا.
ريح الأيديولوجيا العقيم: خطابٌ فضفاضٌ
الأيديولوجيا ـ كما هو معروف ـ هي دعوة أيا كانت، وليست عقيدة ولا دينا، بل هي نسق من المعتقدات والمفاهيم (واقعية ومعيارية) يهدف إلى تفسير ظواهر اجتماعية معقدة من خلال منطق يوجه ويبسّط ويبرر الاختيارات السياسية أو الاجت
ولا أنكر أنني ككثيرين، كنت أنتظرُ، بعد أن تناغمت خطاباتُ الفرقاء السياسيين بمختلف أطيافهم مع خُطَب المثقفين بشتّى مشاربهم؛ أن تتجه الألسن والعقول إلى صناعة وبلورة خطوط الحل العريضة، عبر تعاط فكري ناضج واع يكون نتاج تلاقحه: وضعَ أسس جديدةٍ لدولتنا التائهة، ولا أنكر أنني عولت كثيرا على "الدّعاة" أو ذوي الأيديولوجيات، لكونهم أدْربَ على النقاش، وأشد تحمسا للاشتراك في كل شدّ وجذب، على أنّي أدرك تمام الإدراك أن الأسئلة والنقاشات الأيديولوجية، لا تشكل ـ إطلاقا ـ جوابا على سؤالِ: ماذا ينبغي أن نفعلَ من أجل أن نحقق نهضة لهذا الوطن؟ بل هي بالأحرى جوابٌ لسؤال: كيف نوزع عوائد التنمية توزيعا عادلا أو كيف ننطق حروف كلمة "تنمية"، أما سؤال:كيف نصنع التنمية؟ أو كيف نرتب حروف كلمة "تنمية"؟ فهذه أسئلة معرفية محضةٌ، لا تتطلب الإجابة عليها أي مرجعية أيديولوجية، بل تنتج الإجابة على هذه الأسئلة التنموية الملحة من منظوماتٍ معرفية تنطلق من الإلمام بالواقع وتنسجم مع طموحات المستقبل، تلك هي الأجوبة التي ستشكل إطارا طبيعيا لأي تقدم منشود.
ولكني مع هذا كله، أكبرت الأمل في نقاشات القوم، وانتظرت سحابا من بروقهم ورعودهم، التي وفي إطار الجفاف الفكري لواقعنا الراهن، انصبت بمساجلات أيديولوجية عقيمة، لا تسمن ولا تغني من جوع، ونثرت ريحها العقيم جدالاتٍ ذهبت في السطحية إلى أبعد شَأو، حيث قسّمت النقابات (طلابية، عمالية،...) ونقضت غزلها، وشخصنت أمورا ونصبت رموزا وحاربت دونها بخيلها ورجلها(شيوخ، شخصيات، لحى، مفاهيم سطحية،...) فما تذكرت إلا حرب داحس والغبراء، والعرب في جاهليتهم الجهلاء.
وهذا الخطاب المسطّح الذي يطلقه دعاة كل أيديولوجية يكشف أمرا خطيرا جدا: أن النخبة المثقفة قد تجاوز خطابها الزمن وأضحت غير قادرة على ممارسة التفكير في مشاكلها الخاصة، ما حدي بها إلى استخراج أرشيف المشاكل وإعادة طرح جدليات مستوردة من بيئات مختلفة، وتم تجاوزها في الغالب، وهذا أمر يعري حقيقة وعي مثقفي الأيديولوجيا المزيف، ويبن أن في بلد المليون شاعر ما يزال الوعي السياسي والاجتماعي لدى النخبة ناقصا بل واهما، فالوعي بالمحيط الخارجي يترجم في خطاب الإنسان، وحين يخرج خطاب الإنسان بلغة خشبية لاترد على التساؤلات المطروحة، باردة لاتحس بلفح الواقع، فهذا لايدع أي مجالا للشك في وهم الأيديولوجيا، وكونها تعكس صورة مقلوبة للواقع، وهذه الصورة النمطية تجعل الأيديولوجيين، إلا قليلا، يحفظون أجوبة نمطية وصورا ثابتة عن واقع لم يعيشوه وبلغة قديمة لم يعد يتكلمها أحد، وهم بهذا يجعلون الأيديولوجية التي اعتنقوها عقيدة منزوعة الروح ، ويغيّبون أي صفة حميدة كانت يمكن أن توصف بها الأيديولوجية، وقليلون جدا هم أولائك الذين ما يزال لأيديولوجتهم اتصال بالواقع، والحقيقة أن ثقافة الأدلجة تزاوجت بثقافة أخرى هي ثقافة الانتفاعية والتمصلح فأنجبا مسخا من المثقفين، يفكر ببطنه، وأصبح يشكل عقبة في وجه التنمية، يستجيب لغضب الشارع وهو لايعي بواعثه، ويسعى جاهدا أن يغلف مطالب الناس البسيطة بخطابات ينسجها من أيديولوجيته النائمة، ولقد نرى شباب الفيس بوك وتويتر أدق في التعبير عن آمال الشعب، وأكثر وعيا بالواقع وإدراكا له من هاؤلاء الذين غابوا عن الواقع وتفاعلاته وأصبح إدراكهم مشوها بدرجة كبيرة.
الثابت والمتحول: أيديولوجيا ثابتة وواقعٌ متغير
وبما أن البعض لم يدرك ذلك فأجدني مرغما على القول: إن الظروف اليوم لم تعد هي نفسها الظروف التي اجتاحت فيها الأيديولوجيات ربوع أوطاننا العربية في الستينات والسبعينات، فلقد تغير الواقع كثيرا وتعددت الأسئلة وتشعبت، ولم تعد كما كانت أسئلة جماهيرية عائمة تطرحها الأيديولوجيا على نفسها وتجيب، لتلقّن جماهير الأمة وتملي عليهم اعتقاداتهم، لقد بلغ الوعي حدا أدنى لدى السواد الأعظمِ من الشعب، وصار الشارعُ يطرح أسئلته وينتظر الإجابة، لقد انتهت خدعة الأيديولوجيا تلك العاطفة الجياشة المزورة للواقع، التي تظهر لعموم الجماهير أنها عصى سحرية تحوي جميع الحلول،فاستخدامنا الحاضر لمفهوم الأيديولوجية يجعلها لا تعدو أن تكون أداة وهمية لتحليل الأوهام، فالخطاب النقدي الذي تنتجه الطبقة السياسية اليوم هو نقدٌ مزيف واهم مرتبك، لا ينم عن إدراك للواقع ، ولا عن وضوح في الرؤية، بل هو سلسلة من الانتقادات الزائفة، تحاول إثارة الشغب الشبابي وتجييش العواطف الشبابية والشعبية عموما في صراعات أيديولوجية جانبية لا تمت للواقع ولا لهمومه بأية صلة، ولا أطلق الكلام هنا على عواهنه بل أعي ما أقصد، فإلى متى يبق الشباب، رهين نعارات: علمانيةٍ ساذجة تلقي بألف عام من تاريخ الأمة وتجاربها في القمامة بما في ذلك التاريخ من ثوابت تشكل ماهية أمتنا؛ وإسلاميةٍ متخلفة يلبس خطابها زيّا تاريخياً باليا يبدو صاحبه كأنما خرج من مسلسل تاريخي أو كأنما يحاول إعادة التاريخ للوراء جاهلا أو متجاهلا متغيرات التاريخ؛ وشيوعيةٍ مسطحة كأن صاحبها لايعيش في الواقع ولا يملك تلفازا؛ أفأبسط تحليل واعٍ للواقع يجعلنا نعي أن التشكيلات الوهمية يمينية ويسارية المطروحة على الشعب، هي تلبيس وإيهام، وهي من بين أسباب تجعلنا مانزال تائهين في دروب التعاسة، فالحقيقة أن الفرق اللاعبة أمام الشعب في سوح السياسة، تنقسم بغض النظر عن رؤاها وعقائدها وتموقعاتها الأيديولوجية، تنقسم إلى فريقين لاثالث لهما: "وطنيون أحرار" يعملون لصالح الوطن، و"مفسدون أشرار" يبيعون الوطن لمن يدفع أكثر، ولعلنا ونحن في جو ثوري نادر الحصول، يحصل في تاريخ الأمة مرة أو مرتين، لانستغشي ثيابنا ونجعل أصابعنا في آذاننا، بل ينبغي أن ننتهز اللحظة ونصغي لضمير الأمة الصادق.
فهناك قابليات تولد في بعض الأزمنة بفعل الحوادث الاستثنائية، وهناك أجيال تصنع التاريخ بتوجيه واقعي ظرفي يهيؤها للدور المهم الذي ستلعبه، ولعل الشباب يعي أثر البيئة في إثارة قدراته الكامنة، ويجاهد لنيل حقوقه دون الوقوع في شرك الأوهام التي ينصبها السياسيون في أذهاننا.
الخطاب الواقعي
والواقع اليومي الذي يعيشه جميع المواطنين، يغرس أسئلته في وجدان كل مواطن، ليحتم عليه أن يحس بمقدار الهوة التي تفصل بين ما يريده لمستقبله وما هو واقعه، وإذا قلنا إن السياسة هي ممارسة وإدارة الشأن العام من أجل إيجاد أجوبة لأكثر الأسئلة إلحاحا، فسنجد أن الممارسات التي تمارسها المعارضة الطامحة إلى الحكم في نواكشوط، لايتجلى فيها فيها شيء، بقدر ما يتجلى فيها صدق وتصميم أقطابها على المشاركة في الحكم أيا كان الثمن، وبلا أهداف محددة، ولا خطط منهجية، ورأس الحربة في معارضنا هم الثلة المؤدلجة، من قوميين وإسلاميين ويساريين وقذافيين وناصريين ...إلخ، وأنا هنا أقدم نصيحة لجميع المتأدلجين إلى تحديث معلوماتهم فقد تم تجاوز الأيديولوجية بنسختها القديمة، والأيديولوجي المحترم اليوم لايدعي إطلاقا أنه يملك الحل لمجرد انتمائه الأيدولوجي، فالحل بكل بساطة مرتبط بمدى تبنى هموم المواطن والسعي في وضع حلول لها وبلورتها في برامج تنموية وإصلاحات حقيقية، ودور الايديولوجيا لم يعد يتجاوز حقيقته العاطفية البسيطة، أما الخطاب الواقعي ذو الأساس المعرفي فجيب أن يزرع الأمل المفقود في قلوب الناس، وينشر السكينة بدل الاضطراب الذي يعم جميع القطاعات، وليس هناك مهدّئ جاهز، بل لابد من الشروع في خطوات واقعية، أولها صنع خطاب معرفي مقبول يلامس هموم المواطنين.
وجدير بنا أن نستوعب الدرس الراقي الذي قدمه الأتراك في حزب العدالة والتنمية، وأن نستوعب الدروس التي لقنها الشعب الكويتي للإسلاميين في 2009 حيث خسروا نصف المقاعد التي حصلوا عليها في الدورة السابقة، ومن المهم كذلك أن نستوعب الدرس المصري الذي أخر جميع القوى الأيديولوجية، وقدم للإسلاميين برلمانا لم يحلموا به، لا لسواد عيونهم، ولكن كفاء صبرهم ومنافحتهم للنظام الديكتاتوري، ولقد آن أن يفهم اللاعبون في الساحة السياسية لاسيما الإسلاميون أن ما يجب أن يحكم العلاقة بالمواطن هو المشروعية، وأما الشرعية فهي طبخات تطبخ بين الساسة ولاتهم المواطن البسيط بشكل كبير، وحين تتحدث المعارضة عن وجوب التحرك لإزالة النظام القائم وتبرر ذالك بطريقة وصول النظام القائم اليوم إلى الحكم والتشكيك في شرعيته، فإن ذلك الحديث لم ولن يستهوي المواطن، لأنه لايمس حياته اليومية، بينما لو تحدثت عن تنافر أنشطة الحكومة مع مقضيات تحقيق العدالة والمصلحة العامة، فإن المواطن حينها سيتجاوب بشكل ملموس مع هذا الخطاب.
وصدق من قال:
بيان: الوطن تؤذيه الخطابة
المعارك الوهمية الكذابة
ليس لفريقٍ كمال
في الجمع اكتمال.
المختار ولد الشيخ زيدان