بكيتُ بين يديْ قابلتي ولم أدرك آنذاك من الحقائق إلا القليل، ولكنني اليوم وقد علوت هضبة من عقدين من الدهر، وانكشفت عي عيني غشاوة الصبا، أقول اليوم وأنا مسند ظهري إلى جذع شجرة الإدراك والوعي المورقة والتي تورق كل يوم وتتبرعم أغصانها المعرفية كل يوم، إن الحياة صناعة وواقع يحول إلى تاريخ بعدُ، فمن أحسن صناعة واقعه فقد كتب سطرا من سطور التاريخ، غير أن الناس على أضراب، فمنهم من يكتب على هامش ورقة كان النص فيها لغيره، ومنهم من يرى الهامش ممتلئا، فيكسر قلمه ويكتم ألمه، إلا أن الأذكياء المبدعين يديرون صفحات التاريخ فيمنحون أنفسهم حق كتابة النص، ثم يأتي بعدهم من يرى نقصا فيكمله على الهامش، وهكذا دواليك.
ومادامت الحياة صناعة فماهي موادها الخام؟ وكيف تركب؟
لاشك أن المادة الأساسية لصناعة التاريخ هي الإنسان، فلا يوجد إنجاز تاريخي لم يصنعه الإنسان، وحين أقول الإنسان فلست أعني الإنسان الفيزيائي الذي اعتد عليه الشيوعيون -العمال- في ثورتهم لتحرير البشرية، فما كادت تقوم حتى قعدت، ولا أقصد الجسد الشهواني الذي تسيره جزرة، ولا العقل المطلق الجامح وحماقاته الذي بنت عليه القارة العجوز والعم سام حضارتهم، فما اخضرت حتى اصفرت، إنني أعني أعمق من تلك وهذه، أعني المزاوجة بين المتناقضات كل بنسبة، وهذا مرام صعب، لكنه هدف سام.
ولقد تأملت الحياة فما أبصرت بها ظلما يذكر ، ولا أنكر أنني لم أفهمها بعدُ، فهي على درجة عالية من التعقيد، وبها من العلائق والتفاعلات المتداخلة شيء كثير، لكنني لم أحتج إلى كبير نظر وتأمل لتتهاوي في ذهني نظرية أبي الشيوعية أستالين: المختصرة في قوله (إن الحروب ناشئة عن الفروق بين طبقات المجتمع وسنسعى لردم الهوة بينها لننعم بعالم أفضل) فحاول هو وأتباعه تضميد جروح البشرية فأوغلوا جرحا في جسمها أشد وأنكى، وطافت بي حينئذ الآية الكريمة ﱷأَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ )32(ﱶ سورة الزخرف، ورأيت ما يجمعون من آراء فاسدة وما يجمعون من قوى اقتصادية وصناعية مبهرة، ورأيت ما يجمعون من إنجازات وقتية لا يكادون يغادرونها حتى يخر بنيانها على رؤوسهم، فعلمت أن الله ما أراد من الإنسان أن يكتب التاريخ هكذا، ولقد رأيت نتائج أن نطلق للعقل العنان فينتج ثمرا علميا طيبا، ولكني لما رأيت نتائج إطلاق العنان للعقل في الأخلاقيات والمثل رأيت عجبا، إن الإنسان ليصب على أخيه الإنسان نارا، وليحرقه حيا لا لشيء إلا أنه ود أن يعيش، لا لشيء إلا لأن الإنسان القوي يريد أن يشرب خمرا ويرقص طيلة ليله، ولا يريد أن يزعجه الإنسان الشرقي الضعيف بمضغه للخبز الحافي، وعلمت أن الحرية تجلب من الفوائد للمجتمع ما لا يحصى ولعل أدنى فوائدها العيش بكرامة لكل فرد، ولكني رأيت التعجرف والكبرياء حين يعميان أمما ظلت إلى عهد قريب تعيش على هامش التاريخ فتأخذ أمما هي من صنعت التاريخ وهي من انحنت لتصعد تلك الأمم القصيرة لجني ثمار التفكير البشري فكافأتها بأن نحرتها، وعلمت أن العقل مع أنه روح من الله ، إلا أن الإنسان حين يمتطي صهوة عقله وتركض به بين مروج التفكير وسهوله لا يلبث أن تغره سرعة العقل وقدراته الخارجة، فيداخله شعور بالربوبية لنفسه ولغيره، فما أجمل أن يسرح به الإنسان في مجالات العلم والفكر عالما أن له حمى لا يتعداه كالرؤية بالعين، إلا كذب على صاحبه ، واختلت مقاييسه، وقيدت عقلي بقوله تعالى ﱷ أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ 14ﱶ سورة الملك. وعرفت أني خير ممن قيد عقله بأمعائه، أو من أطلق عقله لشهواته تسوقه سوق البعير.