الأربعاء، 18 ديسمبر 2013

لمن لايفهم التعايش

لمن لايفهم التعايش
كنتُ أعلم أن الكثيرين من بني وطني لايفقهون التعايش ولا أساليبه ولا ضرائب العيش المشترك، ولقد تأكدت حين قرأت ردودا مشبعة بالعواطف خالية من المنطق العلمي، تقطر حقدا على ما تصطلح هذه المقالات على تسميته مجتمع البيظان، كتبت فيما يبدوا ردا على دعوة للتعايش، ولست هنا في معرض الدفاع عن البيضان أو مهاجمة غيرهم، فتلك مهمة قذرة أربأ بنفسي عنها، ولكنني أجد لزاما علي أن أبين الحق لكتاب عموا عن الحق وفهموا التاريخ مقلوبا، وتعلموا من الكتابة ما يجرحون به أنفسهم ومجتمعهم، ثلة يفوح من كتاباتها دخان الحقد، فكتبت إطفاء لما ينوون إشعاله من نسيج وحدتنا، ولن تلبس أباطيلهم إلا على جاهل  لايميز بين الحق والباطل.
حين يجد البعض ضغطا من مصاعب الحياة العملية ينكفئ على ذاته ويرى الكون من زاوية شخصية ضيقة، تجعله يرى مشكلته الشخصية البسيطة (الحصول على ترقية وظيفية، أو الحصول على مكاسب مادية) مشاكل وطن، ومذابح للتضحية بجميع المبادئ، فيقيء كل ما في جوفه من حقد متراكم، ويتكلم بكلام أقل ما يوصف به أنه هذيان سكران، وأعظم تجن على الحقيقة أن نصف مثل كاتب هذه المقالات بالحقوقي أو المناصر للقضايا الحقوقية، لاسيما وأنه يضر القضايا التي يدافع عنها أكثر مما ينفعها.
كل ظلمٌ عميق لانستطيع رفعه هو استعباد
أعتقد أن استعباد الإنسان لأخيه الإنسان هو نقطة سوداء في تاريخ البشرية تطورت عبر مراحل عدة، لتتجذر في وعي المجتمعات المتعاقبة، ولكن البشرية بلغت أوج نضجها الاقتصادي والمعرفي ما جعل من الممكن تطبيق فكرة تحرير العبيد فيزيائيا والإبقاء على استعبادهم اقتصاديا، فأنا أزعم أن الظلم المجحف الذي يتعرض له الإنسان في عالمنا الثالث، يجعله عبدا للنظم الحاكمة والثلة المسيطرة على الاقتصاد والسياسة، وأجزم أن الظلم في موريتانيا شامل، ولايكاد المرء يولد حتى تصله فواتير الظلم الذي يدفعها من صحته ومستوى تعليمه وتخبطه في دروب المستقبل،ولاشك أن الظلم درجات، والمظلوم نفسه ربما كان ظالما من قبل، والفرد الموريتاني يتربى تربية معوجة غير سوية، تجعل ظروفها وضغوطها نفسه مشوهة مصابة بعقد نفسية خطيرة، يُظلم حين يرتكب الأطباء أخطآء في صحته، يُظلم حين يمارس المعلمون عملية تعليم رديئة في حقه، يُظلم حين يمارس والداه عملية تربية مشوهة عليه، يُظلم حين يصنفه المجتمع في طبقة دُنيا لايستطيع فكاكا منها، يُظلم حين يبحث عن عمل فلا يجده إلا بشق الأنفس ليستعبده رب العمل، وليستعبده من توسط له في إيجاد العمل، ويستعبده شرطي أمن الطرق الذي يعامله بجفاء وغلظة، يستعبده حتى البقال.
وصفحات صحفنا تمتلئ بصرخات الشكوى من هذه العبودية العصرية والظلم المستشري الذي ينتشر في بلادنا، ولعل آخر الشكاوي التي أشار صاحبها عبد القادر ولد أحمدناه إلى شركته التي ظلمته بأنها إقطاعية متوحشة، ولست أنسى ماعاناه الأستاذ الفقيه باب ولد معط قبل أن تنتبه الرئاسة وتقوم بواجبها تجاه هذا المواطن الصالح الذي طالما أنار دروب الناس وأفادهم بعلومه.
في منظومة الظلم الذاتي المتكاملة هذه، لايكون من المجدي أن نركز على ظلم فرد واحد نجعله قضية تاريخية نحاول إثباتها، ألا يظلم أبناء هذا الوطن أنفسهم وذواتهم؟ ألا ينبغي أن نفكر في المشاكل أكبر؟ أن نطرح الأولويات لوطن يهوي في بئر التخلف العميقة:  نظام تعليمي متهاو، نظام صحي متخلف، نظام أمني شكلي، أليس من الغباء أن نصرف جهودنا وننقب في التاريخ لنثبت أن رئيس البرلمان الحالي والموظف السامي السيد مسعود ولد بلخير لم يعين مباشرة بعد تخرجه؟ ماهذا السرطان الفكري الذي أصاب هذا النوع من الكتاب؟ حتى يكتب عن موقف تمييز مزعومٍ مورس ضد من أصبح من أسمى موظفي الدولة الحاليين ورئيس إحدى السلطات العليا في البلاد؟ أليس عمى الألوان هذا عنصرية؟ ألم يشاهد كاتبه ماتعيشه بلادنا من ظلم مجحف في حق جميع أبنائها بيضا وسودا؟ ألا يسعى هذا النوع من الكتاب إلى تعميق الجرح ونبش قمامات الماضي؟
لا أشكّ في أن جنوح بعض الكتاب المغمورين للكتابة بأسلوب عنصري مقيت يرفض صاحبه التعايش، لن يخفف من حدة معاناة لحراطين التي تخنقهم كجميع المواطنين البسطاء في هذا البلد للأسف، ولكنني أنبه العقلاء من هذه الشريحة والمدافعين بصدق عن قضاياها أن المعضلات لاتحل بين عشية وضحاها، وأن النضال طريق تراكمي طويل، لن يبلغ نتائجه المتزلفون الانتهازيون الباحثين عن مغانم ذاتية آنية، ولا ينكر أحد ماتعانيه هذه الشريحة من تخلف ومعاناة مضاعفة، ولكن حلها في التكافل والتعاضد، والتخطيط لاستراتيجي لتنمية آدوابه والتجمعات التي تشكل بؤرا للمعاناة والتخلف للأسف، فلن يتقدم الوطن إلى إذا تقدم بجميع أبنائه، لن يصلح الوطن إلا إذا صلح لجميع أبنائه، ويد واحدة لاتصفق كما في المثل الشعبي.
ما الذي يهدف له كاتب يسعى علنا لتفريق المجتمع وزيادة جروحه؟ ألا يقرأ هؤلاء التاريخ؟ لِمَ لم يتعلموا من نيلسون مانديلا؟ الذي وقف ربع قرن أمام الظلم ثم خرج لايحمل حقدا على أحد، ألا يتعلم هؤلاء من قيم دينهم؟  ماهو الحل في نظرهم؟ أن يوقدوا حربا يخسر فيها الجميع؟ ماهي حلولهم المقترحة غير سبّ الآخر وشتمه؟  هل ستحل معاناة لحراطين بسب البيضان ولعنهم؟ فليوقدوا شمعة بدل لعن الظلام، فليقوموا بتعليم هذه الشريحة، فليقوموا بجمع التبرعات لها من الموسرين، فليبنوا المساجد لها، وليؤسسوا المدارس، لكن هيهات أن يقبل ممولوهم صرف أموالهم في نشاطات هادفة حقا كهذه، هيهات أن ينتزع أمثال هذا الكاتب اللقمة من أفواههم ليضعوها في أيدي الفقراء، ليس معنى التعايش أن تحل جميع المشاكل، بل معناه أن يتنازل البعض للبعض، أن نؤجل بعض المشاكل لنحل مشاكل أخرى أكثر إلحاحا، فمشكلة تعليم آدوابه أكثر إلحاحا من ترقية أستاذ فلسفة، ومشكلة إصلاح التعليم أولا أهم من تعميمه فتعميم تعليم فاسد لاتحل المشاكل بل تفاقمها، هكذا نفكر نحن دعاة التعايش، لا ننكر المشاكل ولانقزمها، ولكننا نبحث عن حلول جذرية شاملة، مستعدون للتنازل عن حقوقنا في حديقة عامة في نواكشوط لتبنى مدرسة في أمبود، ولكن هل من مستجيب، حقوقنا نحن تؤكل وتنهب كما تنهب حقوق البسطاء في تنبدغة.
يجب أن نعي أننا حين نزيح الظلم الذي تمارسه جميع الأنظمة على أغلبية المواطنين فسوف ننجح في تعميم التنمية، وحين نهزم شبح الفساد فسوف ننعم برخاء العدل الشامل، لاتستطيع دولة أن تكون عادلة تجاه فئة دون فئة، هل يشيد النظام شوارع للبيضان أو الزنوج؟ هل يداوي البيظان في نظام صحي راق؟ نحن جميعا نعاني فلنقف جميعا في وجه الظلم ولنعد ترتيب أوراقنا.
المختار ولد الشيخ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق